فصل: فصل في طَبقات المُكَلَّفِيْن فِي الآخِرَة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في طَبقات المُكَلَّفِيْن فِي الآخِرَة:

قَال ابْنُ القّيم رَحِمَهُ اللهُ: طَبقاتُ المُكَلَّفِيْنَ فِي الآخِرَةِ ثَمَانِي عَشَرَةَ طَبَقَةً:
أَعلاَهَا مَرْتَبَةُ الرُّسُلِ صَلَواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ ثَلاثُُ طَبَقاتٍ أَعْلاَهُمْ أُولُو العَزْمِ الخَمْسَةُ ثُمَّ مَنْ عَدَاهُمْ مِن الرُّسُلِ ثُمَّ الأَنْبِياءُ الّذِيْنَ لَمْ يُرْسَلُوا إلَى الأُمَمِ.
الرَّابِعَةُ: الصّدّيقُوَن وَرَثَةُ الرُّسُلِ القَائِمُونَ بِمَا بُعِثُوْا بِهِ عِلْماً وعَمَلاً وَدَعْوَةً لِلْخَلْقِ إلى اللهِ عَلَي طَرِيْقِهِمْ.
الخَامِسَةُ: أَئِمّةُ العَدْلِ وَوُلاَتُهُ.
السادِسةُ: المُجَاهِدُوْنَ فِي سَبِيْلِ اللهِ.
السابِعَةُ: أَهْلُ الإِيْثَارِ والإِحْسَانِ وَالصَّدَقَةِ.
الثّامِنَةُ: مَنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَاباً مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْر القَاصِرِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ صَلاةٍ وَصِيامٍ وَحَجٍّ وَغَيْرِهَا.
التّاسِعَةُ: طَبَقَةُ أَهْلِ النَّجَاةِ وَهُمْ مَنْ يُؤَدِّيْ فَرَائِضَ اللهِ وَيَجْتَنِبْ مَحَارِمِهُ.
العِاشِرَةُ: طَبَقَةُ قَوْمٍ أَسْرَفُوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَغَشَوْا كَبَائِر مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ وَلَكِنْ رَزَقَهُمُ اللهُ التَّوْبَةَ النَّصُوْحَ قَبْلَ المَوْتِ فَمَاتُوا عَلَى تَوْبَةٍ صَحِيْحَةٍ.
الحادِيَةَ عَشَرةَ: طَبَقَةُ أَقْوَامٍ خَلَطُوا عَمَلاًً صَالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً وَلَقُوا اللهَ مُصِرِّيْنَ غَيْرَ تَائِبِيْنَ لَكِنْ حَسَنَاتُهُمْ أَغْلَبُ مِنْ سَيِّئاتِهِمْ فَإِذَا وُزِنَتْ بِهَا رَجَحَتْ كِفَّةُ الحَسَنَاتِ فَهَؤُلاَءِ أيْضاً نَاجِحُوْنَ فَائِزُوْنَ.
الثَانِيَة عَشَرة: قَوْمٌ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيّئاتهُمْ وَهُمْ أَصْحَابُ الأعْرَافِ وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ الجَنَّةِ والنّارِ ولَكِنْ مَآلُهُمْ إلى دُخُوْلِ الجَنَّةِ.
الثّالثَ عَشَرة: طَبَقَةُ أَهْلِ البَلِيَّةِ والمِحْنَةِ وِهُمْ قَوْمٌ مُسْلِمُوْنَ خَفَّتْ مَوَازِيْنُهُمْ وَرَجَحَتْ سِيِّئَاتُهُمْ عَلَى حَسَنَاتِهِمْ وِهِؤُلاءِ الّذِيْنَ ثَبَتَتْ فِيْهِمْ الأحادِيثُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ النَّارَ فَيَكُونُوْنَ فِيْهَا عَلَى مِقْدَارِ أَعْمَالِهِمْ ثُمَّ يُخْرَجُوْنَ مِنْهَا بشَفَاَعَةِ الشَّافِعِيْنَ وبِرَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِيْن.
الرَّابِعَةَ عَشَرة: قَوْمٌ لاَ طَاعَةَ لَهُمْ ولاَ مَعْصِيَةَ وَلاَ كُفْرَ وَلاَ إِيْمَانَ وَهُمْ أصْنَافٌ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الدَّعْوَةُ بِحَالٍ وَمِنْهُمْ المَجْنُونُ اّلذي لاَ يَعْقِلُ وَمِنْهُمْ الأَصَمُّ اّلذي لاَ يَسْمَعُ شَيْئاً أَبَداً وَمِنْهُمْ أطْفَالُ المُشْرِكِيْنَ اّلذِينَ مَاتُوْا قَبْلَ أنْ يُمَيَّزُوْا شَيْئاً فاخْتَلَفَتِ الأَئِمَّةُ فِيْهِمْ عَلَى ثَمَانِيَةَ مَذَاهِبٍ أَرْجَحُهَا أَنَّهُمْ يُمْتَحِنُوْنَ فِي عَرَصَاتِ القِيَامَةِ ويُرْسَلُ إِلَيْهِمْ هُنَاكَ رَسُولٌ فَمَنْ أَطَاعَ الرّسُولَ دَخَلَ الجَنَّةَ وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ.
وبِهَذَا تَتَّفِق الأحَادِيْثُ وَتُواِفُق الحِكْمَةُ والعَدْلُ.
الطَّبْقَةُ الخَامِسَةَ عَشَرَةَ: طَبَقَةُ الزَّنَادِقّةِ وَهَؤُلاَءِ المُنَافِقُوْنَ اّلذِيْنَ أَظْهَرُوْا الإِسْلاَمَ وأبْطَنُوا الكُفْرَ وهُمْ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنْ النّارِ.
الطَّبَقَةُ السَّادِسَةَ عَشَرَةَ: رُؤُسَاءُ الكُفْرِ وأَئِمَّتُهُ وَدُعاتُهُ وَيَتَغَلَّظُ الكُفْرُ بِغِلَظِ العَقِيْدَةِ وبِالعِنَادِ وبالدَّعْوَةِ إِلى البَاطِلِ.
الطَّبَقَةُ السّابِعَةَ عَشَرَةَ: طَبَقَةُ الْمُقَلِّدِيْنَ وَجُهَّالُ الكَفَرَةِ وَقَدْ اتَّفَقَتِ الأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُم كُفَّارٌ.
الثّامِنَةَ عَشَرَةَ: طَبَقَةُ الجِنِّ وهُمْ مُكَلَّفُوْنَ مُثَابُونً وًمُعَاقَبُوْنَ بحَسَبِ أعْمَالِهِمْ ولِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوْا ولِيُوْفِيَهُمْ أعْمَالِهِمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُوْنَ.
وَقَالَ الإِنابَةُ الرُّجُوعُ إِلى اللهِ وانْصِرافُ دَوَاعِي القَلْبِ وِجِوِاذِبِهِ إِلَيْهِ وَهِيَ تَتَضَمَّنُ المَحَبَةَ والخَشْيَةَ وَالنَّاسُ فِي إِنَابَتِهِمْ دَرَجَاتٌ مُتَفاوِتَةٌ فَمِنْهُمْ المُنِيْبُ إِلى اللهِ بِالرُّجُوْعِ إِلَيْهِ مِن المُخَالَفَاتِ والمَعَاصي والحَامِلُ الخَوْفُ وَالعِلْمُ.
وَمِنْهُمْ المُنِيْبُ إِلى اللهِ فِي أَنْوَاعِ العِبَادَاتِ فَهُوَ سَاعٍ بِجُهْدِهِ ومصْدرُهَا الرَّجَاءُ وَمُطَالَعَةُ الوَعْدِ والثَّوَابِ وَهَؤُلاَءِ أبْسَطُ نُفُوْساً مِن الأَوَّلِيْنَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُنِيْبٌ بِالأمْرَيْنِ ولِكِنْ يَغْلِبُ عَلَى الأَوَّلِيْنَ الخَوْفُ وَيَغْلِبُ الرَّجَاءُ عَلَى الآخِرِيْن.
وَمِنْهُمْ المُنِيْبُ إِلَيْهِ بالتَّضَرُّعِ والدُّعَاءِ وكَثْرَةِ الافْتِقَارِ وسُؤَالِ الحَاجَاتِ كُلِّهَا مَعَ قِيَامِهِمْ بالأمْرِ والنَّهْيِ وَمِنْهُمْ المُنِيْبُ إِلى اللهِ عَنْدَ الشَّدَائِدِ فِقِطْ إِنَابَة المُضْطَّرِّ لا إِنَابَة اخْتِيَارٍ.
وَأَعْلَى أَنْوَاعِ الإِنَابَاتِ إِنَابَة الرُّوْحِ بِجُمْلَتِهَا إِلَيْهِ لِشِدَّةِ المَحَبَّةِ الخَالِصَةِ المُغْنِيَة لَهُمْ عَمَّا سِوَى مَحْبُوْبِهِمْ وَحِيْنَ أنَابَتْ إِلِيْهِ لَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْهُمْ شَيْء عَنِ الإِنَابَةِ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا رَعِيَّتُهَا وَأَدّتْ وَظَائِفَهَا كَامِلَةً فَسَاعَةُ من إِنَابَة هَذَا أَعْظَمُ مِنْ إِنَابَة سِنِيْنَ مِنْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ انتهي.

.موعظة:

عِبَادَ اللهِ نَحْنُ فِي عَصْرٍ بَارَكَ اللهُ فِيْهِ بَرَكَةً عَمَّتِ المَشَارِقَ والمَغَارِبَ وَكُلَّ مَا للأرْضِ مِنْ أَنْحَاءَ مِمَّا نَعْلَمُهُ وَجَّهَ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ أَفْكَارَ بَنِيْ آدَمَ إِلى مَا أَوْدَعَهُ فِي خَلْقِهِ مِنْ أَسْرَارً تَفُوْتُ الإحْصَاءَ وَيَسَّرَ لَهُمْ السَّبِيْلَ فَوَصِلُوا مِنْ التَّرَاقِي فِي الاخْتِراعِ والإطّلاعِ إِلى مَا يُدْهِشُ الأفْكارَ وتَزْدَادُ بِهِ عَقِيْدَةُ المُؤْمِنِ قُوَّةَّ فَلا يَعْتَرِيْهِ أدْنَى شَكِّ فِي مِا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُه.
أَصْبَحَتِ الدُّنْيَا كُلُّهَا كَأَنَّهَا بَيْتٌ وَاحِدٌ يُكَلِّمُ النّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً مَعَ بُعْدِ المَسَافَةِ وِيُسَافِرُوْنَ بَرّاً وَبَحْراً فيَقْطَعُوْنَ بِالمَرَاكِبِ البَرِيَّةِ والبِحْرِيَّةِ فِي مُدَّةٍ يَسِيْرةٍ مَا يَحْتَاجُ إِلى مُدَّةٍ طَوِيْلَةٍ فِيْمَا مَضَى وِتِنْقُلُ تِلْكَ المَرَاكِبُ الّتِي خَلَقَهَا اللهُ لَنَا مِنَ الأثْقَالِ بِقُوَّةٍ وسُرْعَةٍ تَقِفُ أَمَامَهَا الألبَابُ حَائِرَاتٍ بَلْ لِوْ أَرَادُوْا مُسَابَقَةَ الطّيْرِ فِي السَّمَاءِ لَسَبَقُوْهُ بِالطّائِراتِ.
فَسُبْحَانَ مَنْ أَرْشَدَ عِبَادَهُ إِلَى صُنْعِ هَذِهِ المُخْتَرَعَاتِ قَالَ تَعَالَى: {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
وانْظُر إِلَى الكَهْرَباءِ وَفَائِدَتِهِا العَظِيْمَةِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَقَدْ صَارَ اللَّيْلُ بِأنْوَارِهِ وكَأنَّهُ نَهَارٌ وَمَا فِيْهِ مِنْ أسْبَابِ الرَّاحَةِ والمَنَافِعِ العَظِيْمَةِ الّتِي لَمْ تَحْصُلْ لِمَنْ قَبْلَنَا أَلَيْسَ هَذَا مِنْ أَعْظَم البَرَاهِيْنِ والأدِلّةِ عَلَى صِدْقِ مَا أَخْبَرَ اللهُ بِهِ بِقَوْلِهِ: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}.
وَعَلَى صِدْقِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ المَصْدُوْقُ مِنْ أَنَّ الزَّمَانَ يَتَقَارَبُ وَهَا أَنْتَ لاَ تَمْشِيْ شَرْقاً وَلاَ غَرْباً إِلاّ وأَنْتَ تَرَى وتَسْمَعُ مِنْ تِلْكَ الأَسْرَارِ مَا تَحَارُبِهِ الأَفْكَارُ فَنَحْنُ الَيْومَ نَتَقَلَّبُ فِي كُلِّ أَحْوَالِنَا فِي نَعِيْمٍ لَمْ يَظْفَرْ بِهِ عَصْرٌ مِنَ الإعْصَارِ حَتَّى إِنَّكَ تَرَى حَيَوَانَ هَذَا العَصْرِ فِي رَاحَةٍ وإِكْرَامٍ لَمْ تَتَمَتَّعْ بِهَا بَنُوْ العُصُورِ الْمَاضِيَاتِ إِنَّ حَقّاً عَلَيْنَا إِزاءَ كُلِّ هَذَا أنْ نَكُوْنَ أسْبَقَ الأجْيَالِ فِي مِيْدَانِ شُكْرِ اللهِ لِيُبَرْهِنَ كُلِّ مِنَّا أَنَّهُ يُحِسُّ وَيَشْعُرُ بِمًا اخْتَصَّهُ بِهِ مَوْلاَهُ. اهـ.
ولكِنْ يَا لِلأَسَفِ لَمْ يَكُنْ مِنَّا شُكْرُ هَذِهِ النَّعَمِ وَاسْتِعْمَالُهَا فِي طَاعَةِ اللهِ وَمَرَاضِيْهِ وَدَلِيْلُ ذَلِكَ مًا تَرَى وَتَسْمَعُ مِنْ المَعَاصِي والمُنْكَراتِ الّتِي تَكَادُ أنْ تَبْكِي مِنْ فُشُوَّهَا وَازْدِيَادِهَا الجَمَادَاتُ.
فَيَا للهِ لِلْمُسْلِمِيْنَ إِنَّهَا لَتَجْرَحُ قَلْبَ المُؤْمِنِ السَّالِمِ مِنْهَا حَرْجاً يُوْشِكُ أنْ يُوْصِلَهُ إِلى القَبْرِ اللّهُمَّ وَفَّقْ وُلاَتَنَا لإِزَالَةِ هَذِهِ المُنْكَراتِ وَلِتْأِيْيِد الإِسلامِ.
والمُسْلِمِيْنَ فِي جَمِيْعِ الجِهَاتِ وَوَفَّقْهُمْ لِلرِّفْقِ فِي رَعَايَاهُمْ والنُّصْحِ لَهُمْ وَسَدَّدْ خُطَاهُمْ.
اللَّهُمَّ وَفّقْنَا لِصَالِحِ الأعْمَالَ، ونَجِّنَا مِنْ جَمِيعِ الأهْوَالِ، وأَمَنّا مِنْ الفَزَعِ الأَكْبَرِ يومَ الرْجْفِ والزلْزَالْ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا، وَلِجَمِيْعِ المُسْلِمِيْنَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلى الله عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وصحبه أجمعين.

.فصل في ذكر نعمة الفراغ ووجوب شكرها واغتنامها:

عَنْ ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ نِعْمَتَانِ مَغْبُوْنِ فِيْهِمَا كَثِيْرٌ مِن النّاسِ الصّحة والفَرَاغُ رِواهُ البُخاريّ والتّرمذيّ والنّسائيّ وأحْمد وابن ماجة.
لَقَدْ صَدَقَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم فِيْمَا قَالَهُ فِي هَذَا الحَدِيْثِ العَظِيْمِ فَإِنَّ كَثِيْراً مِنَ النَّاسِ يُهْمِلُ وَاجِبَ النِّعَمِ عَلَيْهِ فلاَ يَسْتَقْبِلُ النِّعَمَ بِمَا يَجِبُ لَهَا مِنَ الشُكْرِ وَلاَ يُحَاوِلُ اسْتِبْقَاؤَهَا بأدَاءِ حَقِّ اللهَ فِيْهَا بَلْ يُعْرِضُ عَنْ اللهِ وَيَنْأى بِجَانِبِهِ وَلاَ يَذْكُرُ هَذِهِ النِّعْمَةَ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَى عَظَمِهَا إلاّ حِيْنَ يَعْدُوْ عَلَيْهَا المَرَضُ فيُذْبِلُ نَضْرَةَ العَافِيَةِ وَيَخْطُوْ بِقُوّةِ الشَّبَابِ عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ إِلى ضَعْفِ الشَّيْخُوْخَةِ.
أَمَّا حِيْنَ يَنْعَمُ الإِنْسَانُ بِسَلاَمَةِ أَعْضَائِهِ وقُوَّةِ بُنْيَتِهِ وَحِيْنَ يُحِسُّ الحَيَوِيَّةَ تَسْرِيْ فِي عُرْوْقِهِ فَهُوَ يَنْطَلِقُ فِي شَهَوَاتِهِ خَاضِعاً لَهَا، وَهُوَ يَظُنُّ نَفْسَهُ الآمِرَ النَّاهِي، وخَاسِراً بِهَا وَهُوَ يَحْسِبُ نَفْسَهُ قَدْ رَبَح كُلَّ شَيْءٍ.
وتَمْضِيْ بِهِ أَيَّامُهُ وَلَيَالِيْهِ وَهُوَ يَرْتَعُ كَالحَيَوَانِ فِي مَلَذَّاتِهِ مِنْ مَأْكُوْلاتٍ وَمَشْرُوْبَاتٍ دُوْنَ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ حَلاَلٍ وَحَرَامٍ وِمْن غَيْرِ تَمِييْزٍ بَيْنَ طَيِّبٍ وَخَبِيْثٍ فَيُسِيءُ إِلى نَفْسِهِ وَيَبْخَسُهَا حَقّهَا إِذْ يُضَيِّعُ طَاقَتَهَا عَلَى العَمَلِ النَّافِعِ وعَلَى الطَّاعَةِ الوَاجِبَةِ فِي اللَّهْوِ واللَّعِب. قال اللهُ جَلَّ وَعَلاَ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.
وَبِلاَ شَكٍّ أَنَّ الصِّحَةَ عَرَضٌ لا يَدُوْمُ بَلْ يَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ وأَنَّ المَرَضَ يُفْقِدُ الإِنْسَانَ مُعْظَمَ طَاقَتَهُ عَلَى العَمَلِ بَلْ رُبَّمَا فَقَدَهَا كُلَّهَا وَعَجِزَ فَمِنَ السَّفَهِ والحُمُقِ إِذاً أَنْ لاَ يَغْتَنِمَ الإِنْسَانُ فُرْصَةَ الصِّحَّةِ والفَرَاغِ مِن الشَّوَاغِلِ لِلطَّاعَةِ والعِبَادَةِ.
وَكُلُّ إنْسَانٍ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ يَتَقَدَّمُ بِهِ الزَّمَنُ يَقْصُرُ عُمُرُهُ وَمَقْدِرَتُهُ عَلَى العَمَلِ تَضْعُفُ كُلَّمَا خَطَا بِهِ الزَّمَنُ وَمحْصُوْلُهُ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يَقِلُّ كُلَّمَا أَقْعَدَهُ المَرَضُ أَوْ أَثْقَلَتْهُ السُّنُوْن فالعَاقِلُ اليَقِظُ يُحَافِظُ عَلَى وَقْتِهِ أَكْثَرَ مِنْ مُحَافَظَتِهِ عَلَى مَالِهِ وَلاَ يُضَيِّعُ مِنْهُ شَيْئاً بَلْ يَسْتَعْمِلَهُ فِيْمَا يُقَرِّبُهُ إِلى اللهِ والدّارِ الآخِرَةِ أَوْ مَا هُوَ سَبَبٌ إِلى ذَلِكَ فَإِنَّ فَاتَهُ شَيْءٌ أَوْ نَسِيَ شَيْئاً مِنْ أَعْمَالِهِ بِاللّيْلِ قَضَاهُ بِالنَّهَارِ وبِالعَكْسِ.
وللهِ آياتٌ كَوْنِيَّةٌ وآيَاتٌ قُرْآنِيّةٌ يَتَمَشَّى المُسْلِمُ النَّشِيْطُ المُبْتَعِدُ عَنْ الكَسَل والعَجْزِ عَلَى ضَوْئِهَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} وَقَالَ: {إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ}.
وَقَالَ تَعَالَى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} فاللهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْ هَذِهِ عَبَثاً فالذّاهِلُونَ عن مَعَانِيْ هَذِهِ الآياتِ، الهَائِمُوْنَ وَرَاءَ مَنَافِعِهِمْ المُعَجَّلَةِ حَمْقَي لا يَنْتَصِحُوْنَ مِن حِكْمَةٍ وِلا يَسْتَفِيْدُوْنَ مِنْ دَرْسٍ تَجِدْهُمْ لا يُبَالُوْنَ بإضَاعَةِ أوقَاتِهمْ فِي غَيْرِ فائِدَةٍ وَرُبَّما أَضاعُوْهَا فِي المَعَاصِي.
أَجْنِبْ جِيَاداً مِنَ التَّقْوى مُضَمَّرةٌ ** لِلْسَّبْقِ يَومَ يَفُوزُ النّاسُ بالسّبَقِ

ثَمُرُّ مَرَّ الرَّيَاحِ الهُوْجِ عَاصِفةٌ ** أوْ لَمْحَةِ البَرْقِ إذَا يَجْتَازُ بالأفُقِ

وَارْكُضْ إِلى الغَايَةِ القُصْوى وخَلِّ لَهَا ** عِنَانَ صِدْقٍ رَمَى فِي فِتْيَةٍ صُدُقِ

فإِنَّ خلْفَكَ أعْمَالاً مُثَبِّطَةٌ ** ولَسْتَ تَنْهَضُ إِلاَّ وَيْكَ بالعَنَق

كَمْ حَّلَ عَزْمَكَ مِن دُنْياً مُعَرَّجَة ** بِقَصْدِكَ اليومَ عن مَسْلُوْكَةِ الطُّرِقِ

يَا غَافِلاً والمَنَايَا مِنْهُ ذَاكِرَةٌ ** وَضَاحِكاً والرَّدَى مِنْهُ عَلَى حَنَقِ

قَطَعْتَ عُمْرَكَ فِي سَهْوٍ وفِي سِنَةٍ ** ومِنْ أمَامِكَ لَيْلٌ دَائِمُ

آخر:
إِذا شَغَّلَ الضُّيَاعُ آلاتِ لَهْوِهِمْ ** وَطَابَ لَهُمْ عِنْدَ المَلاَهِيَ مَحْفَلُ

وَسُرُّوْا بِمَا فِيْهِ هَلاَكُ نُفُوْسِهِمْ ** وَدِيْنُهُمُ وَالأَهْلُ وَالمَالُ أَوَّلُ

فَقُمْ وَتَوَضّأ وأقْصِدْ الماجِدَ الّذي ** إِذا مَا مَضَي الثُّلْثَانِ للَّيْلِ يَنْزِلُ

يَقُولُ أَلاَ مِنْ سَائِل يُعْطَ سُؤْلَهُ ** ومُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرْ لَهُ مَا يُؤَمِّلُ

ومِنْ مُذْنِبٍ مِمَّا جَنَى جَاءَ تَائِباً ** إِلى غَافِرٍ لِلّذَنْبِ لِلتَّوْبِ يَقْبَلُ

وَكَرِّرْ سُؤَالاً وَالدُّعَا بِتَضَرُّعٍ ** لَعَلّكَ تُحْظَى بِالفَلاَحِ فَتُقْبَلُ

وَقُلْ عَبْدُكَ المِسْكِيْنُ قَدْ جَاءَ تائِباً ** وَيَرْجُوْكَ تَوْفِيْقاً ولِلْعَفْوِ يَأْمَلُ

فَجُدْ وَتَجَاوَزْ يَا جَوَادُ لِمًنْ أتَى ** وَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ رَجَاؤُكَ مَوْئِلُ

اللَّهُمَّ وَفّقْنَا لِصَالِحِ الأعْمَالَ، ونَجِّنَا مِنْ جَميِع الأهْوَالِ، وأمَنّا مِنَ الفَزَعِ الأكْبَرِ يومَ الرْجْفِ والزِلْزَالْ، واغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا، وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحْيَاِء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، وصلى اللَّهُمَّ علي سيدنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ وصحبه أجمعين.

.فصل فيمن يضيعون الوقت والتحذير منهم:

ثُمَّ اعْلَمْ أَهْلَ الضَّيَاعِ لَلْوَقْتِ الَّذِينَ كَانَ أَمْرُهُمْ فُرُطَاً وأعْمَارُهُمْ سَبَهْلَلاً لا يُفِيْقُوْنَ مِنْ قَتْلِ أوْقَاتِهِمْ فِي البَطَالَةِ وعِنْدَ المُنْكَرَاتِ مِنْ كُرَة وفِيدْيو وتِلفزْيُون ومِذْيَاعٍ وسِيْنَمَا وَوَرَقٍ وَغِيْبة ونَمِيْمةٍ وتَجَسُّسٍ عَلَى المُسْلِمْين وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَرُبَّمَا أَضَافُوْا إِلى ذَلِكَ الجِنَايَةَ عَلَى أَوْقَاتِ الآخَرِيْن فَشَغَلُوهُم عَنْ أَعْمَالِهِمْ بِشُئُونٍ تَافِهَةٍ أَوْ فِيْمَا يَعُوْدُ عَلَيْهِم بِالخُسْرانِ فَهَؤُلاَءِ أَسَاءُوا مِنْ جِهَتَيْن عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِذْ يُمْضُونَ أَيَّامَهُمْ فِي غَيْرِ عَمَلٍ وعَلَى غَيْرِهِمْ حَيْثُ شَغَلُوْهُمْ عَنْ العَمَلِ والعَجَبُ أنَّ هَؤُلاَءِ الّذِيْنَ اعْتَادُوْا قَتْلَ الوَقْتِ إِذَا مَا تَبَيَّنَ فَشَلُهُمْ فِي نَوْبَةِ يَقْظَةٍ رَاحُوْا يَتَساءَلُوْنَ عَنْ سِرِّ هَذَا الفَشَلِ وَيَتَّهِمُوْنَ الأَيَّامَ تَارةً والحَظّ تَارةً أُخْرَى، كَأَنَّهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ مَطْبُوْعُونَ عَلَى النَّجَاحِ دُوْنَ عَمَلٍ وَأَنْ يَجْنُوْا ثِمَارَ مَوَاهِبِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَتَلُوْا هَذِهِ المَوَاهِبَ.
أَمَّا السَّبَبُ الحَقِيْقِي لِفَشَلِهِمْ فَهُوَ لاَ يَخْطُرُ لَهُمْ بِبالٍ وَلاَ يُفَكِّرُوْنَ فِيْهِ وَذَلِكَ لِضُعْفِ عُقُوْلِهم.
فَعَلَى العَاقِلِ أَنْ يَبْتَعِدَ عَنْ هَؤُلاَءِ الكُسَالَى كُلَّ البُعْدِ لِئلا يُؤَثِّرُوْا عَلَيْهِ فَيُصِيْبُهُ مَا أَصَابَهُمْ مَنْ ضَيَاعِ العُمْرِ سُدَى ويَجْتَهِدَ فِي صُحْبَتِهِ ضِدَّ هَؤُلاَءِ أُنَاساً أتْقِيَاءَ مُحَافِظِيْنَ عَلَى أَوْقَاتِهِمْ لاَ يُمْضُوْنَهَا إِلاَ فِي طَاعَةِ اللهِ وَمَا أَحْسَنَ مَا قيل:
أخو الفِسْقِ لا يُغْرُرْكَ مِنْهُ تَوَدُدٌ ** فكُلُ حِبَالِ الفَاسِقْيِنَ مَهِينُ

وَصَاحِبْ إذَا مَا كُنْتَ يَوْماً مُصَاحِباً ** أَخَا ثِقَةٍ بالغَيْبِ مِنْكَ أَمِيْنُ

آخر:
بِعَشْرَتكَ الكِرَامَ تُعَدُّ مِنْهُمْ ** فَلاَ تُرَيَنْ لِغَيرِهُمُ أَلُوفْا

آخر:
فَصَاحِبْ تَقِيّاً عَالِماً تَنْتَفِعْ بِهِ ** فَصُحْبَةُ أَهْلِ الْخَيْرِ تُرْجَى وَتُطْلَبُ

وَإِيَّاكَ والفُسَّاقَ لاَ تَصْحَبَنَّهُمْ ** فَقُرْبُهُمُ يُعْدِى وَهَذَا مُجَرَّبُ

فَإِنََّا رَأَيْنَا المَرْءَ يَسْرِقُ طَبْعَهُ ** مِنْ الإِلْفِ ثُمَّ الشَّرُّ لِلنَّاسِ أَغْلَبُ

وجَانِبْ ذَوِيْ الأَوْزارِ لاَ تَقَرَبنَّهُمْ ** فَقُرْبُهُمُ يُرْدي ولِلْعِرْضِ يَثْلِبُ

آخر:
وأَهْوَ مِنْ الإِخْوَانِ كُلّ مُجَنِّبٍ ** عَنْ اللَّهْوِ مقْدَاماً عَلَى فِعْلِ طَاعَةِ

لَهُ عِفَّةٌ عَنْ كُلِ شَيْءِ مُحَرَمٍ ** وَذُوْ رَغْبَةٍ فيمَا يَقُوْدُ لجَنَّةِ

آخر:
لاَ يُعْجِبَنْكَ أثْوَابٌ عَلَى رَجُلٍ ** وَانظُرْ إِلى دِيْنِهِ وَانظُرْ إِلى الأدَبِ

فالعُوْدُ لَوْ لَمْ تَفُحْ مِنْهُ رَوَائِحُهُ ** مَا فَرَّقَ النَّاسُ بَيْنَ العُودِ والحَطَب

وبالتَّالِي فالّذِي يُرْشِدُنَا إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُقَرِّرُ أوّلاً أنَّ صِحَّةَ البَدَنِ نِعْمَةُ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْنَا لِيُرَبّي فِيْنَا الوَعْيَ بِقِيْمَةِ الطَّاقَةِ الإنْسَانِيَّةِ الّتِي خَلَقَهَا اللهُ فِيْنَا. فَنَسْتَغِلّها فِيْمَا يَعُوْدُ عَلَيْنَا أَفْرَاداً وَجَمَاعَةً بالخَيِْر والنَّفْعِ.
وَيُقَرَّرُ لَنَا صلى الله عليه وسلم ثَانِياً أنَّ الوَقْتَ هُوَ الحَيَاةُ، وَأَنَّ مَا نَحْسِبُهُ فَرَاغاً فَنَتَفَنَّنُ فِي وَسَائِلِ قَتْلِهِ هُوَ الطَّرِيْقُ إِلى التَّقَدُّمِ فَالحَقِيْقَةُ أَنْ الحَيَّ الّذِي يُقَدِّرُ حَيَاتَهُ يَبْخَلُ فِي الوَقْتِ أَنْ يَكُونَ فَيْهِ فَارِغاً وَيَجْتَهِدُ فِيْهِ فِي العَمَلِ الّذِي يُقرّبُهُ إِلى اللهِ وإِلى مَرْضَاتِهِ مِنْ صَلاَةٍ وَصَدقَةٍ وتَهْلِيلٍ وتَسْبِيحٍ وتكْبيرٍ وتَحْمِيدٍ.
وَمِنْ اسْتِغْلالِ الوَقْتِ بأنْفَعِ الوَسَائِلِ المُدَاوَمَةُ عَلَى الْعَمَِل وَإِنْ كَانَ قَلِيْلاً. وَذَلِكَ أَنَّ اسْتِدَامَةَ الْعَمَلِ القَلِيْلِ عَلَى تَوَالي الزَّمَانِ واسْتِمْرَارِهِ يُكَوِّنُ مِنْ القَلِيْلِ كَثِيْراً مِنْ حَيْثُ لاَ يَجِدُ الإِنْسَانُ مَشَقَّةً وَلاَ ضَجَراً.
وفِي الْحَدِيْثِ إِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلى اللهِ مَادَامَ وَإِنْ قَلَّ وفِي الْحَدِيْثِ الآخَرِ إِنَّ الدَّيْنَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدّيْنَ أَحَدٌ إِلاَ غَلَبَهُ فَسَدَّدُوْا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوْا واسْتَعِيْنُوْا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ والقَصْدَ القَصْدَ.
فقَدْ خَتَمَ صلى الله عليه وسلم هَذَا الْحَدِيثَ بِوَصِيَّةٍ خَفِيْفَةٍ عَلَى النُّفُوسِ، نَافِعَةٍ تُرْشِدُ إِلى المُحَافَظَةِ عَلَى الوَقْتِ، حَيْثُ حَثّ فِيْهَا عَلَى التَّبْكِيْر وَرغَّبَ أَنْ يَبْدأَ المُسْلِمُ أَعْمَالَ يَوْمِهِ نَشِيْطاً طَيّبَ النَّفْسِ مُكْتَمِلَ العَزْمِ فَإِنَّ الحِرْصَ عَلَى الاْنتِفَاعِ مِنْ أَوَّلِ الْيَوْمِ يَسْتَتْبِعُ الرَّغْبَةَ القَوِيَّةَ فِي أنْ لاَ يَضِيْعَ سائِرُهُ سُدَى.
فَهَذِهِ الأوْقَاتُ الثّلاثَةُ المَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيْثِ، كَمَا أَنَّهَا السَّبَبُ الوَحِيْدُ لِقَطْعِ المَسَافَاتِ القَرِيْبَةِ والبَعِيْدَةِ فِي الأَسْفَارِ الحِسّيِةِ مَعَ رَاحَةِ المُسَافِرِ وَرَاحَةِ رَاحِلَتِهِ وُوُصْوْلِهِ بِرَاحَةٍ وَسُهُوْلَةٍ فَهِيَ السَّبَبُ الوَحِيْدُ لِقَطْعِ السَّفَرِ الأُخْرَوِيِّ وَسْلُوْكِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيْمِ والسَّيْرِ إِلى اللهِ سَيْراً جَمِيْلاً.
فَمَتَى أَخَذَ العَامِلُ نَفْسَهُ وَشَغَلَهَا بِالْخَيْرِ والأَعْمَالِ الصَّالِحَِة المُنَاسِبَةِ لِوَقْتِهِ أَوَّلَ نَهَارِهِ وآخِرَ نَهَارِهِ وشَيْئاً مِنْ لَيْلِهِ وخُصُوصًاً آخِرَ اللَّيْلِ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْخَيْرِ وَمِنْ البَاقِيَاتِ الصّالِحَاتِ أَكْمَلُ حَظٍّ وَأَوْفَرُ نَصِيْبٍ وَنَالَ السَّعَادَةَ وَالفَوْزَ وَالفَلاحَ وَتَمّ لَهُ النَّجَاحُ بِإِذْنِ اللهِ فِي رَاحَةٍ وَطُمَأْنِيْنَةٍ مَعَ ُحُصْولِ مَقْصَدِهِ الدُّنْيَويّ وأغْرَاضِهِ النَّفْسِيَّةِ.
وَمِمَّا وَرَدَ فِي الحَثِّ عَلَى صِيَانَةِ الوَقْتِ مَا وَرَدَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اغْتَنِِمْ خَمْساً قَبْلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ وغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ».
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ أَلاَ إِنَ سِلْعَةَ اللهِ الجَنَّةَ». وَرُوِيَ عَنْ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ مَرَّ بِيْ رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم وأنَا مُضْطَجِعَةٌ مُتَصَحَّبَةٌ فَحَرَّكَنِيْ بِرِجْلِهِ ثُمَّ قَالَ: «يَا بُنَيَّةَ قُوْمِيْ فاشْهَدِي رِزْقَ رَبَّكِ وَلاَ تَكُونِي مِنَ الغَافِلِيْنَ فَإِنَّ اللهَ يَقْسِمُ أَرْزَاقَ النَّاسِ مَا بَيْنَ طُلُوْعِ الفَجْرِ إِلى طُلُوْعِ الشَّمْسِ» إِذْ أَنَّ الجَادِيْنَ أَوْ الكُسَالَى يَتَمَيَّزُوْنَ فِي هَذَا الوَقْتِ فَيُعْطَى كُلُّ امْرئٍ حَسَبَ اسْتِعْدَادِهِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا والآخِرَةِ.
إَذَا المَرْءُ لم يَطْلُبْ مَعَاشاً لِنَفْسِهِ ** شَكَا الفَقْرَ أَوْ لاَمَ الصَّدِيْقَ فَأكْثَرَا

وَصَارَ عَلَى الأَدَنَيْنِ كَلَّاً وَأَوْشَكَتْ ** صِلاتُ ذَوِيْ القُرْبَى لَهُ أَنْ تَنْكَرَا

وخِتَاماً فَيَنْبَغِيْ لِلْعَاقِلِ اللَّبِيْبِ أَنْ لاَ يُضَيِّعَ أَيَّامَ صِحَّتِهِ وَفَراغَ وقْتِهِ بِالتَّقْصِيْرِ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَأَنْ لاَ يَثِقَ بِسَالِفِ عَمَلٍ وَيَجْعَلَ الاجْتِهَادَ غَنِيْمَةَ صِحَّتِهِ، وَيَجْعَلَ الْعَمَلَ فُرْصَةَ فَراغِهِ. فلَيْسَ الزَّمَانُ كُلُّهُ مُسْتَعِدَاً وَلاَ مَا فَاتَ مُسْتَدْرِكاً.
لَيْسَ السَّعَادَة أَنْ تَبِيْتَ مُنَعَّمَا ** وتَظَلُّّ سَالِكاً مَسْلكَ الكَسْلانِ

مَا لِلرِّجَالِ وللتَّنَعُمِ إِنَّمَا ** خُلِقُوا ليْعُبدُوْا خَالِقَ الإِنْسَان

قَال بَعْضُهُمْ فَوْتُ الوَقْتِ أَشَدُّ مِنْ فَوْتِ الرُّوْحِ عِنْدَ أَصْحَابِ الحَقِيْقَةِ لأَنَّ فَوْتَ الرَّوْحِ انْقِطَاعٌ عَنْ الخَلْقِ وَفَوْتَ الوقتِ انْقِطَاعٌ عَنْ الحَقِّ.
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ الرَّاحَةُ لِلرِّجَالِ غَفْلٌَة ولِلنِّسَاءِ غِلْمَةٌ فَالفَرَاغُ مَفْسَدَةٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لاً تُمْضِ يَوْمَكَ فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ وَلاَ تُضِعْ مَا لَكَ فِي غَيْرِ الفِعْلِ الحَسَنِ، فَالعُمْرُ أقْصَرُ مِنْ أنْ يَنْفَدَ فِي غَيْرِ المَنَافِعِ كَمَا قِيْلَ:
أَذَانُ الْمَرْءِ حِيْنَ الطِّفْل يَأتِيْ ** وتَأْخِيْرُ الصَّلاةِ إِلى المَمَاتِ

دَلِيْلٌ أَنَّ مَحْيَاهُ قَلِيْلٌ ** كَمَا بَيْنَ الأذَانِ إِلى الصَّلاَة

وَالْمَالُ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُصْرَفَ فِي غَيْرِ الصَّنَائِعِ والعَاقِلِ أَجَلُّ وأَكْيَسُ مِنْ أنْ يُفْنِي أَياَّمَهُ فِيْمَا لاَ يَعُودُ إِلَيْهِ نَفْعُهُ وَخَيْرُهُ ويُنْفِقُ أَمْوَالَهُ فِيْمَا لاَ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُهُ وأجْرُهُ.
وَقَالَ عِيْسَى عَلَيْهِ وعَلَى نَبِيّنَا أَفْضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ البّرُّ ثَلاَثَةٌ المَنْطِقُ والنَّظَرُ والصَّمْتُ فَمَنْ كَانَ مَنْطِقُهُ فِي غَيْرِ ذِكْرٍ فَقَدْ لَغا ومَنْ كَانَ نَظَرُهُ فِي غَيْرِ اعْتِبَارَ فَقَد سَها ومَنْ كَانَ صَمْتُهُ فِي غَيْرِ فِكْرٍ فَقَدْ لَهَا.
عَقَلْتُ فَودَّعْتُ التَّصَابِي وَإِنَّما ** تَصُرُّمُ لَهْوِ المَرْءِ أنْ يَكْمُلَ العَقْلُ

أَرَى الكُفْرَ شَرَاً فِي الحَيَاةِ وَبَعْدَهَا ** ولاَ عُمرَ إِلاّ مَا يُنَالُ بِهِ الفَضْلُ

ومِمَّا يَحْفِزُ الإِنْسَانَ عَلَى المُسَابَقَةِ إِلى فِعْلِ الطَّاعَاتِ تَذَكُّرُ يَوْمِ القِيَامَةِ وَحَالَةَ السَّبْقِ لِلْمُجدِّيْنَ قَالَ بَعْضُهُمْ:
إِذَا مَضَتِ الأَوْقَاتُ فِي غَيْرِ طَاعَةِ ** وَلَمْ تَكُ مَحْزُوْناً فَذَا أعْظَمُ الخَطْبِ

عَلاَمَةُ مَوْتِ الْقَلْبِ أَنْ لاَ تَرَى بِهِ ** حَرَاكاً إِلى التّقْوَى ومَيْلاً عَنِ الذَّنْب

وَقَالَ الآخر:
وَلَوْ قَدْ جِئْتَ يَوْمَ الفَصْلِ فَرْداً ** وأبْصَرْتَ المَنَازِلَ فِيْهِ شَتَّى

لأَعْظَمْتَ النَّدَامَةَ فِيْهِ لَهْفاً ** عَلَى مَا فِي حَيَاتِكَ قَدْ أَضَعْتَا

فَالعَاقِلُ مَنْ يُبَادِرُ أَيَّامَ الصِّحَّةِ وَالَّسلاَمَةِ وَلاَ يُفَوِّتُ مِنْهَا شَيْئاً فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللهِ.
قَالَ الأَعْشَى:
إِذا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى ** وَأَبْصَرْتَ بَعْدَ اْلمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا

نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لاَ تَكُوْنَ كَمِثْلِهِ ** وَأَنَّكَ لَمْ تُرْصِدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا

وَاِنْ سَكَنَتْ عَمَّا قَلِيْلٍ تَحَرَّكُ ** وَاِنْ سَكَنَتْ عَمَّا قَلِيْلٍ تَحَرَّكُ

وبَادِرْ بأَوْقَاتِ السَّلامَةِ إِنَّهَا ** رِهَانٌ وهَلْ لِلرَّهْنِ عِنْدَكَ مَتْرَكُ

نَسْألِ اللهُ أَنْ يُوفِقَنَا لِتَدبُّرِ آياتِهِ وفَهْمِ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم والْعَمَلِ بِهِمَا وأنْ يَرْزُقَنَا الانْتِفَاعَ بِمُرُورِ الزَّمَنِ عَلَى خَيْرِ وَجْهٍ إِنَّهُ القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ، اللَّهُمَّ أَيْقِظْنَا مِنْ هَذِهِ السِّنَةِ وَوَفِقْنَا لاِتِّبَاعِ ذَوِي النُّفُوسِ المُحْسِنَةْ وآتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، اللَّهُمَّ وآتِنَا أَفْضَلَ مَا تُؤْتِي عِبَادَكَ الصَّالِحِيْنَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسِلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرحمَ الرَاحِمِينَ وصلى الله عَلَى مُحَمَّدٍ وعَلَى آلِهِ وصَحبِهِ أجْمَعين.